بدءا.. الصدقة في مفهومها التقليدي؛ نقود وأشياء محسوسة يساعد بها الغني الفقير، ويمنحها القوي للضعيف. وهي بهذا المعنى ضيقة المفهوم جدا، وأثرها في حياة المجتمع محدود. ولو أنها ظلت قرونا طويلة مظهرا من مظاهر التكافل الاجتماعي، ورباطا من روابط المجتمع، وأداة لتطهير الأغنياء من الشح، وإعانة الفقراء على الحياة.
وبصرف النظر عن هدف الإسلام الأصيل في أن يكتفي الناس بعملهم الخاص فلا يحتاجون للصدقات؛ ذلك الهدف الذي تحقق في عهد عمر بن عبد العزيز إذ يقول يحيى بن سعيد: "بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيرا، ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس..".
بصرف النظر عن هذا الهدف النهائي، فقد كانت الصدقات وسيلة احتياطية في المجتمع، طالما أن الفقر موجود، وإلى أن تتمكن الدولة - كما تمكنت في عهد عمر بن عبد العزيز - من إغناء الناس عن غير هذا الطريق.
ولكن الحديث النبوي يخرج بالصدقة من معناها التقليدي الضيق، من معناها الحسي؛ إلى معناها النفسي. وهنا تنفتح على عالم رحيب ليست له حدود.
كل خير صدقة.. وعلى كل امرئ صدقة..
هكذا في شمول واسع لا يترك شيئا ولا يضيق عن شيء!
كل خير صدقة. أو ليس ذلك حقا؟!
فإذا كانت الصدقة تنبع من معين الخير، فإن حديث الرسول الكريم لا يزيد على أن يرجع مباشرة إلى هذا المعين، يستجيشه ويستدره، ليتفتح ويفيض، ويتدفق في كل اتجاه.
الخير هو معين الصدقة. فليكن كل خير صدقة! كل ما ينبجس من هذا المعين. كل ما يخرج من هذا النبع الطاهر النظيف، هادفا إلى الخير محققا له في واقع الحياة.
والصدقة ما هي؟ أليست "إعطاء"؟
بلى، إنها كذلك فليكن إذن كل إعطاء صدقة! حتى تبسمك في وجه أخيك.. صدقة!
إنه ذات المنبع، إنها هي ذاتها التي تحدث في نفسك وأنت ترفع حجرا من الطريق حتى لا يعثر فيه الناس، وهي ذاتها التي تدفع الابتسامة إلى وجهك حين ترى وجه أخيك.
منبع واحد. وحركة واحدة في جميع الأحوال.
ودافع واحد..