نحن مع موسى بن عمران في هذا اليوم، وموسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، شخصية لامعة في عالم الدعوة، بل هو بطل القصص القرآني، الذي أنزله الله على قلب النبي ، تسلية له ولأصحابه، وأخذاً للعبر والعظات لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى [يوسف:111].وكما يقول بعض المفكرين: إن المناظرة بين موسى وفرعون كانت جدليةً، تنظيرية، عسكرية، اقتصادية، تربوية في نفس الوقت.فحيا الله موسى بن عمران، وأهلاً وسهلاً ببطل الدعوة، الذي خاض غمارها، أكثر من خمسين عاماً.فتعالوا نستمع إلى القرآن وهو يقصّ علينا من نبأ هذا النبي الكريم، فمن القرآن نأخذ القصص، ومنه نأخذ طرق الدعوة وأساليبها، ومنه نأخذ الأحكام والعقائد السلوك.موسى في الصحراء، عصاه في يمينه، يجلس في ظل شجرة بعد أن أعياه هشّه على غنمه، فتأتيه عناية الله، وفضل الله، ووحي الله، يأتيه الأمر الإلهي بالذهاب إلى طاغية الأرض، السفاك المجرم، والإرهابي العميل، إلى فرعون الضال، الذي قتل النساء، والذي ذبح الأطفال، والذي دمر الأجيال، والذي استعبد الشعوب، والذي عاث في الأرض فساداً.يقول الله تعالى: وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبسٍ أو أجد على النار هدى [طه:9-10]. ثم كانت المفاجأة التي لم يكن ينتظرها، فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادِ المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى [طه:11-13]. وكأن موسى عليه السلام يتساءل: من أنت؟ ما حقيقتك؟ دُلني عليك؟ فيقول الله عز وجل: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [طه:14].هذا هو رب العالمين، هذه حقيقته عند أهل السنة والجماعة، إذا قال لك أحد من هو الله؟ فقل هو الله.. الذي لا إله إلا هو، فالله يعرف نفسه لموسى عليه السلام، كأنه يقول له: اعرفني قبل أن تُعرف بي، وقبل أن تنطلق بالدعوة إلي إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى [طه:14-15].فهذه ثلاث قضايا ينبغي أن يعرفها كل من يتصدر للدعوة إلى الله عز وجل. القضية الأولى: قضية التوحيد والعبودية: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فلابد أن تعلم هذه القضية، قولاً وعملاً، وقد أمر الله نبيه محمداً أن يعلمها فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد:16]. فلا معبود بحق إلا الله، ولا متصرف إلا الله، ولا خالق، ولا مدبر، ولا حاكم، ولا مسيطر، ولا مرجوّ، ولا مقصود إلا الله تبارك وتعالى.القضية الثانية: قضية الصلاة، فلا دين لمن لا صلاة له، ولا امتثال لمعالم العقيدة بغير صلاة.والقضية الثالثة: قضية الإيمان باليوم الآخر، وهي قضية كبرى، ركز عليها القرآن في مواضع كثيرة، وأبطل زعم الذين أنكروا هذا اليوم زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤنّ بما عملتم وذلك على الله يسير [التغابن:7].فعقيدة لا تبنى على اليوم الآخر عقيدة مهزوزة، وأدب وفن وجمال وتصوير لا يؤسّس على الإيمان باليوم الآخر، جهالة وعمالة ولعنة من الله تعالى.ويوم سخر الكتبة أقلامهم في خدمة الإلحاد، وفي الاستهزاء باليوم الآخر، ضاعوا، وضلوا، ولعنوا في الدنيا والآخرة إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [طه:15-16].ثم يتحدث الله بعد ذلك مع موسى حديثاً شيقاً، حديث الأنس واللطف؛ ليزيل الدهشة عنه، وليطرد الرعب عن نفسه، لأنه موقف صعب، لا يتحمله أي إنسان، تصور أنك تكلم الله تعالى، وتستمع إلى خطاب ملك الملوك، موسى كاد يطير قلبه من بين جوانحه، فألقى الله عليه خطاب المؤانسة والملاطفة، حتى لا يستوحش، وحتى لا تسيطر عليه الأوهام، والعرب كانت تعرف ذلك، فهذا الأزدي يقول في قصيدته:
أحادث ضيفـي قبـل إنـزال رحلـه ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
فيقول الله لموسى عليه السلام: وما تلك بيمينك يا موسى [طه:17]. ليلاطفه، وليؤانسه.وفهم موسى ذلك، فلم يقل: هي عصاً وسكت، وإنما لما لذّ له الخطاب زاد في الجواب؛ ليستمر الحوار بينه وبين رب العزة قال هي عصاي أتوكّأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى [طه:18]. قال ابن عباس : رحم الله موسى، إنما كان يكفيه أن يقول عصاً، ولكن ارتاح لخطاب ربه فزاد في الكلام.
والله يسأله عن العصا، لأنها سوف تكون تاريخاً، وسوف تكون درساً للأجيال، وسوف تكون قروناً من العبر. قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حيةٌ تسعى [طه:19-20]. يا سبحان الله!! إن موسى عليه السلام لا يعرف هذه الخوارق، ولا هذه المفاجآت، إنه يعرف أن السماء هي السماء، لا تتغير ولا تتبدل، ويعرف أن الأرض هي هذه الأرض التي يسير عليها، وأن العصا هي العصا، وأن الحية هي الحية.
الليل ليلٌ والنهار نهارُ والأرض فيها الماء والأشجار
*فلم تنقلب العصا إلى حية تسعى؟! ففر موسى خائفاً، وتصور موسى وهو يفر خائفاً من رب العلمين، فيطمئنه ربه، ويهدئه قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى [طه:21]. فعاد فأخذها، فإذا هي عصا.موسى عليه السلام فر خائفاً من عصاه، ومع ذلك أرسله الله عز وجل إلى ذاك الطاغية المجرم، الديكتاتوري السفاك، الذي كان يلقي المحاضرات على العملاء الأغبياء البلداء، ويقول لهم: ما علمت لكم من إله غيري [القصص:38]. فيصفقون له، ويقول لهم: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي [الزخرف:51]. فيهزون رؤوسهم طرباً، ويسجدون له تذللاً.قال بعض المفسرين: كان على قصر فرعون ستة وثلاثون ألفاً من الحرس، كل واحد منهم يرى أن فرعون إلهه، وخالقه، ورازقه، ومحييه، ومميته!!.ثم قال الله لموسى: واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء [طه:22].فهذه آية أخرى من آيات الله عز وجل، أدخل يدك يا موسى في إبطك، ثم أخرجها، تخرج بيضاء من غير برص ولا بهق، وقد ذكر أهل التفسير أن موسى عليه السلام كان بيده برص، فأراد الله أن يعلمه أنه على كل شيء قدير. آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى [22-23].ثم بدأ التكليف بالدعوة، بدأت الرحلة الشاقة المضنية اذهب إلى فرعون إنه طغى [طه:24]. وتصور موسى عليه السلام وهو يستمع إلى هذا الأمر الإلهي، لقد فرّ موسى من فرعون، لأنه تمرد عليه، وقتل شخصاً من رعيته، وقد حكم عليه فرعون بالإعدام غيابياً، ثم يأتي الأمر الإلهي: اذهب إلى فرعون إنه طغى [طه:24].لم يقل له اذهب إلى حاشية فرعون، أو جنود فرعون، أو أرسل إليه رسالة، وإنما أمره بالتوجه مباشرة إلى هذا المجرم الطاغية اذهب إلى فرعون لماذا؟ إنه طغى .لقد تجاوز الحدّ؛ سفك دماء الأبرياء، قتل الأطفال، نشر الفساد، أرهب العباد، دمر البلاد، داس الأجيال تحت قدميه.فماذا طلب موسى من ربه؟ وعلى الدعاة أن يتنبّهوا إلى هذا الطلب قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي [طه:25-28].فموسى عليه السلام ما كان يبين في حديثه، بل كان يأكل بعض الحروف إذا تكلم، فليس في استطاعته أن يبلغ الدعوة، وسوف يضحك عليه هذا المجرم العُتُل، وقد فعل ذلك بالفعل، حيث عقد مقارنة بينه وبين موسى عليه السلام، وفضل نفسه على نبي من أنبياء الله، ورسول من أولي العزم، قال في سورة الزخرف: أليس لي ملكُ مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [الزخرف:51-52]. يقول: إنني أغني منه مالاً، وأعظم منه سلطاناً، وأفصح منه لساناً، فأنا ألقي المحاضرات، وأعقد الندوات، وموسى لا يستطيع ذلك، مع أن هذا بعد أن طلب موسى من ربه أن يحلل عقدة من لسانه، فكيف لو ذهب موسى قبل ذلك؟!إن موسى عليه السلام ما طلب أن يكون أفصح الخلق، ولا أخطب الناس، وإنما طلب أن يكون كلامه مفهوماً، لتقوم بذلك الحجة على فرعون، وقد قامت، إلا أن هذا هو شأن المفسدين، يتصيدون الأخطاء للدعاة الصادقين، ولا يتورعون عن رميهم بالتهم والافتراءات التي هم منها برآء.وطلب موسى من ربه أيضاً نصيراً، ومعاوناً له على تلك المواقف الصعبة واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي [طه:29-30]. سماه وعينه لربه ليختاره له، وعلل لذلك بقوله: اشدد به أزري وأشركه في أمري [طه:31-32]. فإن الواجبات كثيرة، وإن التبعات جسيمة، فأريد أخي ليكون على ميمنتي فيقويني ويثبتني عند ذاك الطاغية الجبار كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً [طه:33-34]. فالاثنان يسبحان ويذكران أكثر من الواحد، والأخ الصالح يذكر أخاه إذا نسى، ويقويه إذا فتر. إنك كنت بنا بصيراً [طه:35]. فأنت الذي أرسلتنا، وتعلم ضعفنا، فأعنا على تلك المهمة الصعبة، وكن معنا بالتأييد والنصرة.
ثم كان الجواب من الله الواحد الأحد: قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه:36]. ولم يقل سؤالاتك، أو طلباتك، لأن المطالب مهما كثرت، ومهما عظمت فهي هينة في ميزان الله عز وجل: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون [يس:82]. ثم ذكره الله عز وجل بتاريخه وماضيه، وإنعامه عليه في كل وقت، أعاد عليه ذكريات الطفولة والصبا ولقد مننّا عليك مرة أخرى إذا أوحينا إلى أمّك ما يوحى أن أقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليمّ بالساحل يأخذه عدوّ لي وعدوّ له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني [طه:37-39].وهذه الآيات فيها قضايا أربع:أولها: كأن الله يقول لموسى عليه السلام: لا تخف من فرعون، ولا تتهيب منه، فقد عصمناك منه وأنت طفل رضيع، وقد ربيناك في قصره وفي بلاطه، كنت تضربه على وجهه وأنت طفل صغير، أتخاف منه الآن وأنت في الأربعين، لا تخف منه فإنه أحقر وأهون من أن تخاف منه.
فموسى الذي ربّاه فرعون مؤمنٌ وموسى الذي ربّاه جبريل كافرُ
موسى الذي تربى في قصر فرعون، هذا القصر الذي فيه الإلحاد والقهر وشرب الخمر وعبودية غير الله، موسى هذا مؤمن ونبي من أنبياء بني إسرائيل.وهناك موسى آخر، موسى السامري، رباه جبريل على الوحي والتوحيد والنور والعبادة، لكنه خرج كافراً مارداً بعيداً عن الله.فلا تستغرب أن ترى شاباً من بيت متهتك، بيت منحل، بيت يعادي شرع الله، وهذا الشاب ولي من أولياء الله، كأنه من شباب الصحابة.ولا تتعجب كذلك إذا أريت شاباً من بيت من بيوت العبودية، بيت ينام على القرآن، ويستيقظ على القرآن، بيت يعظم تعاليم الإسلام، وهذا الشاب ينشأ شيطاناً ضالاً، فهذه حكمة بالغة، وقدرة نافذة.ثم يستمر القرآن في تعديد نعم الله عز وجل على موسى: إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقرّ عينها ولا تحزن [طه:40]. لا تظن أننا نسينا النفس التي قتلها، فإن ذلك مكتوب في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولكننا غفرنا لك وفرّجنا همك وقتلت نفساً فنجّيناك من الغمّ وفتناك فتوناً فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدرٍ يا موسى واصطنعتك لنفسي [طه:40-41].هذا تاريخ موسى أمام عينيه، وكأن الله تبارك وتعالى يقول له: هذا تاريخك يا موسى، وتلك هي الأحداث التي مررت بها، كانت عنايتنا معك في كل حدث منها، وكان حفظنا يلاحقك في كل مكان حللت فيه اذهب أنت وأخوك بآياتي ولاتنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى [طه:42-43]. ولنقف الآن عند هذا الحد، لننتقل إلى قصر فرعون، نستمع إلى ذاك الحوار الساخن الذي دار بين موسى وفرعون، على موسى السلام، وعلى فرعون اللعنة، وهذا موضوع الخطبة الثانية إن شاء الله.أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله. . الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.فيصل بنا الخطاب إلى قول الله تعالى: اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري [طه:42]. لقد أجبت سؤالك يا موسى، فجعلت أخاك معك، وجعلته نبياً من الأنبياء المصطفين، ولا تنيا في ذكري وهذا على معنيين:الأول: لا تضعفا في الدعوة، ولا تخافا أحداً مهما بلغ عتوه وجبروته، وابذلوا ما استطعتم في سبيل تبليغ الدعوة إلى الناس.الثاني: قيل إن قوله تعالى: ولاتنيا في ذكري أي لا تفتروا عن ذكري؛ من التسبيح، والتهليل، والتكبير، والتحميد، لأن موسى عندما طلب أخاه وزيراً معه قال: كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً [طه:33-34]. فلا ينبغي أن تنسى يا موسى ما قطعته على نفسك من كثرة التسبيح والذكر.
فزاد الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربت
فأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرت
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متّى
فزاد القلوب هو التسبيح والتكبير، وزاد الأرواح هو التحميد التهليل، فالله يقول لموسى وهارون: أكثرا من الذكر، فإنكما ستمران بمواقف صعبة، وتكاليف ضخمة، لا تستطيعان خوض غمارها إلا بأن تكونا على قرب مني، وأن تكونا دائماً في ذكر وثناء وافتقار لجلالي اذهبا إلى فرعون إنه طغى [طه:43]. عاد الخطاب كما كان أول السورة، في أول السورة قال الله لموسى: اذهب إلى فرعون إنه طغى [طه:24]. وهنا يقول لموسى وهارون: اذهبا إلى فرعون إنه طغى [طه:43]. اذهبا إليه، واعلما بأنه طاغية جبار، ولكن كيف يخاطب موسى وهارون هذا الجبار؟ ما الوسيلة التي يستخدمها موسى في عرض الدعوة عليه؟ فيبين الله أن الوسيلة الناجحة في مخاطبة هؤلاء الجبابرة، هي اللين، وعدم العنت، وذلك بأن تعرض عليه الدعوة بأسلوب هيّن وليّن حسن، فلعل الله أن يهديه، ولعل الله أن يشرح صدره، فلا ينبغي أن نحكم على الناس، بأن الله ختم على قلوبهم، فلا يهتدون، ولا يعقلون، ولا يفهمون، قال تعالى: اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى [طه:43-44]. ما أحسن هذا الكلام، وما أعجب هذا الخطاب، يقول عن فرعون: إنه طاغية، جبار، سفاك للدماء، ملحد، عنيد، ومع ذلك، يأمر أنبياءه باللين معه، وعدم تعنيفه وتوبيخه، لعله يستحسن الخطاب، فيستجيب إلى الحق. قال ابن عباس في قوله تعال: فقولا له قولاً ليناً ، قال: يُمنّياه بالملك.فلما دخل عليه موسى قال له: إذا أجبتنا، أبقى الله عليك ملكك، ومكنك أكثر من ذلك فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى لعله يتذكر نعم الله عليه، وتمكينه إياه، فبعض الناس لا يأتي إلا من باب الرغبة، وبعضهم لا يستجيب إلا بالترهيب، والداعية لابد أن يكون بصيراً بالقلوب، عالماً بطبائع النفوس، حتى يدخل على كل إنسان من الباب الذي ترجى إجابته منه.فقال موسى وهارون: ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [طه:45]. والله يعلم أنه يطغى، والله يعلم أنه جبار، قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [طه:46]. وإذا كان الله معك فلماذا تخاف؟ وإذا كان الله ناصرك فممن تخشى ؟ فانطلقا بهذا المبدأ، لا تخافا أحداً، مادام الله معكما، وناصركما، ويؤيدكما.وموسى عليه السلام خاف ثلاث مرات؛ مرة لما رأى العصا وقد انقلبت حية، فقال الله له: خذها ولا تخاف [طه:21]. وهذه المرة، حين دخل البلاط الفرعوني قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [طه:46]. ومرة ثالثة، يوم أن نازل فرعون في الميدان أمام الجماهير فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى [طه:67-68]. قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذّبهم قد جئناك بآيةٍ من ربك والسلام على من اتبع الهدى [طه:46-47].
دخل موسى عليه، ووقف هارون بجانبه، موسى يتكلم، وهارون يثبت ويساعد، والمجرم ينظر إليهما بعلوّ وعتو وجبروت، لأنه صور نفسه أنه رب، وأنه صانعٌ، أنكر توحيد الربوبية، وادعى ذلك لنفسه؛ كبراً، وعتواً، وإن كان في الباطن يوقن بربوبية الله للكون، كما قال له موسى عليه السلام: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنّك يا فرعون مثبوراً [الإسراء:102]. فلما تكلم موسى، ودعاه إلى الله عز وجل، ضحك فرعون منهما، ضحك استهزاء واستهتاراً؛ لأنه مستخف بالقيم، يدوس التاريخ بقدميه، يجعل المروءات خلف ظهره، لا يقيم للمثل وزناً ولا قيمة.أخذ ينظر إلى موسى على أنه راعي غنم، يحمل عصاه على كتفه، وأنه أتى من الصحراء، حيث لا حضارة ولا تقدم، ثم ينظر إلى نفسه فيرى الدنيا تحت قدميه، فيزداد كبراً وصلفاً.وهكذا يفعل الطغاة، يوم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوم لا يصلون ولا يخافون من الواحد الأحد، هكذا يفعل كل فرعون إلى أن تقوم الساعة.فانبرى الخسيس من على كرسيه وسأل موسى سؤالاً تافهاً حقيراً مثله فمن ربكما يا موسى [طه:49]. فهو لا يعرف رباً ولا يؤمن بإله، فماذا كان جواب موسى: قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [طه:50]. فإن كنت تستطيع ذلك فأنت رب، وإن كنت لا تستطيع فلست برب، وأنى لك ذلك!!قال الزمخشري: لله درّه من جواب؟وقال أحدهم: والله لقد تناوله موسى بكفّ على وجهه، وتحت كلمة ((خلقه)) مجلدات من العبر، وتحت كلمة ((هدى)) مجلدات من الصور. هدى كل شيء هدى الطفل يوم أن وضعته أمه، لا يعرف شيئاً، ولا يبصر شيئاً، فهداه إلى ثدي أمه ليجر منه اللبن.وهدى النحلة أن تطير آلاف الأميال، لتأخذ رحيق، وتعود مرة ثانية إلى خليتها.وهدى الحمام الزاجل، يوم ينقل الرسائل، من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد، ثم يعود إلى مكانه لا يضل ولا يضيع.يقول العالم الأمريكي: ((كيرسي ميرسون)) في كتاب ((الإنسان لا يقوم وحده)): إنني أتعجب من النحل، وأقول: لعل النحلة معها جهاز (إريال) تكتشف به خليتها!! فيرد عليه سيد قطب في سورة (سبح) قائلاً: لا، ليس معها جهاز، ولكن الله عز وجل يقول: وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً [النحل:68-69]. إنه الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [طه:50]. فهزم فرعون وبهت، وظهر فشله وعجزه، ولكنه أتى بسؤال آخر كالذي قبله أو أتفه منه قال فما بالُ القرون الأولى [طه:51]. أين ذهب أجدادنا وآباؤنا؟! قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [طه:52]. ما شأنك أنت بهذا؟ ما أهمية هذه المسألة عندك؟ أنت ذرة من الذرات، أنت حشرة من الحشرات؟
أنت لا تعرف من أنت ولا أنت لا تدري بماذا قد تئول
أنت مخلوقٌ حقيـر بائس أنت لا تدري إلى أين الرحيل
قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [طه:52]. فهزمه موسى مرة ثانية، وانتصر عليه، وفضحه أمام الجماهير، وبين عجزه أمام الأجيال.وبقي موسى إلى قيام الساعة يذكر في مواكب الأنبياء المخلصين، وفي مواكب الدعاة الخالدين.
أيها المؤمنون: