قال الله تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم * قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " .
وقال تعالى : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " وقال تعالى : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " .
كما قال : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " .
وقال تعالى : " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها " .
وقال تعالى : " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين * قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين * ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " .
كما قال في الآية الأخرى : " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " وقال تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا إبليس ما لك أن لا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين * وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " .
وقال تعالى : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا * قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " وقال تعالى : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا " وقال تعالى : " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى * فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " . وقال تعالى : " قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون * إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين * إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين * قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين " .
فهذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن ، ولنذكر هاهنا مضمون ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات ، وما يتعلق بها من الأحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . . والله المستعان .
فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلاً لهم : " إني جاعل في الأرض خليفة " أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضاً كما قال : " وهو الذي جعلكم خلائف الأرض " وقال تعالى : " ويجعلكم خلفاء الأرض " فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته ، كما يخبر بالأمر العظيم قبل كونه ، فقالت الملائكة سائلين على وجه الإستكشاف والإستعلام عن وجه الحكمة ، لا على وجه الإعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم ، كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين ، قالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " .
وقيل علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن ، قاله قتادة .
وقال عبد الله بن عمر : كانت الجن قبل آدم بألفي عام فسفكوا الدماء ، فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة فطردوهم إلى جزائر البحور .
وعن ابن عباس نحوه . وعن الحسن ألهموا ذلك .
وقيل : لما أطلعوا عليه من اللوح المحفوظ ، فقيل أطلعهم عليه هاروت وماروت عن ملك فوقهما يقال له السجل . رواه ابن أبي حاتم عن أبي جعفر الباقر .
وقيل : لأنهم علموا أن الأرض لا يخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالباً .
" ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " أي نعبدك دائماً لا يعصيك منا أحد ، فإن كان المراد بخلق هؤلاء أن يعبدوك فها نحن أولاء لا نفتر ليلاً ولا نهاراً .
" قال إني أعلم ما لا تعلمون " أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق خلق هؤلاء ما لا تعلمون ، أي سيوجد منهم الأنبياء والمرسلون والصديقون والشهداء الصالحون .
ثم بين لهم شرف آدم عليهم في العلم فقال : " وعلم آدم الأسماء كلها " قال ابن عباس : هي هذه الأسماء لا يتعارف بها الناس : إنسان ، ودابة ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجبل ، وجمل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها .
وقال مجاهد : علمه اسم الصحفة ، والقدر ، حتي الفسوة والفسية .
وقال مجاهد : علمه اسم كل دابة ، وكل طير وكل شيء . وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد .
وقال الربيع : علمه أسماء الملائكة . وقال عبد الرحمن بن زيد : علمه أسماء ذريته .
والصحيح : أنه علمه أسماء الذوات وأفعالها مكبرها ومصغرها ، كما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما .
وذكر البخاري هنا ما رواه هو و مسلم من طريق سعيد وهشام ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يجمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا ، فيأتون آدم فيقولون أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء " وذكر تمام الحديث .
" ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " قال الحسن البصري : لما أراد الله خلق آدم ، قالت الملائكة : لا يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه . فابتلوا بهذا ، وذلك قوله : " إن كنتم صادقين " .
وقيل غير ذلك كما بسطناه في التفسير .
قالوا : " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " أي سبحانك أن يحيط أحد بشيء من علمك من غير تعليمك ، كما قال : " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " .
" قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " أي أعلم السر كما أعلم العلانية .
وقيل : إن المراد بقوله : " أعلم ما تبدون " ما قالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها " وبقوله : " وما كنتم تكتمون " المراد بهذا الكلام إبليس حين أسر الكبر والنفاسة على آدم عليه السلام ، قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري واختاره ابن جرير .
وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة : " وما كنتم تكتمون " قولهم : لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه .
وقوله : " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر " هذا إكرام عظيم من الله تعالى لآدم حين خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، كما قال : " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " فهذه أربع تشريفات : خلقه بيده الكريمة ، ونفخه من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له ، وتعلميه أسماء الأشياء .
ولهذا قال له موسى حين اجتمع هو وإياه في الملأ الأعلى وتناظرا كما سيأتي : " أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده . ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء " . وهكذا يقول له أهل المحشر يوم القيامة كما تقدم ، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى .